مثل كرة من الثلج تتدحرج عبر المنحدر لتكبر وتكبر وتدمّر كل ما يأتي أمامها (حرق)
ما يميّز أفلام هو أنها واقعية بشكل مفرط، ولا نجد في أفلامه شخصيات شريرة، بل شخصيات عادية مثلي ومثلكم. إنهم يتدافعون للهروب من الأزمات القانونية والأخلاقية التي يقعون بها، ويسعون للتوفيق بين مصلحتهم الذاتية ومفاهيمهم المتعثرة عن الصواب والخطأ.
مثلما لا توجد في أفلامه شخصيات شريرة، أيضاً لا توجد شخصيات بطولية، ولذلك عنوان الفيلم "بطل" يضعنا كمشاهدين على المحك ونحن نستكشف مع "فرهادي" الحبكة الساخرة والملتوية والمنطوية في عنوانه، وكيف يجعلنا نتساءل بشكل عميق عن مفهوم البطولة. "فرهادي" يبدأ فيلم "بطل" مع البطل نفسه وهو يصعد على سلالم لا نهاية لها، وهذا المشهد الافتتاحي يحاكي بشكل عميق وذكي الصعود الشاق لبطلنا "رحيم" على سلالم الحياة. إنه شاب موهوب في فن الخط والرسم، وهو خارج السجن في إجازة لمدة يومين. إنه قابعٌ في السجن بسبب عجزه عن سداد ديْنٍ كبير، حيث تدهورت حياته حين قام شريكه بالهرب من البلاد بالمال الذي اقترضاه معاً لبدء عمل تجاري.
إنّ "رحيم" مصمّم على تسديد ديونه بأيّة طريقة ممكنة، وبشكل غير متوقع وكأنما حدثت معجزة لإنقاذه من هذا المأزق، تعثر خطيبته "فرخونده"، التي ينوي الزواج منها بعد قضاء فترة عقوبته، على حقيبة يد مفقودة تحتوي على عدد من العملات الذهبية. بالطبع، السؤال الذي يراودنا كمشاهدين هو: هل سيقوم "رحيم" ببيع العملات الذهبية وتسوية أموره مع الدائن لكي يخرج من السجن؟ "رحيم" فعلياً يتساءل مثلنا، ووصل به الأمر إلى معاينة العملات الذهبية في أحد متاجر الذهب لمعرفة قيمتها النقدية، إلا أنه في نهاية المطاف يفعل شيئاً أكثر نبلاً من ذلك، إذ يعيد الحقيبة ومحتوياتها القيّمة إلى امرأة مصرّة على أنها صاحبة الحقيبة. "رحيم" كان أمام خيارين صعبين: الأول هو فعل الشيء الصحيح الذي لن يفيده، والثاني هو فعل الشيء الخاطئ الذي سيفيده، ولكن "فرهادي" يزوّده بخيارٍ ثالث مثير للاهتمام: "فعل الشيء الصحيح الذي لن يفيده، قد يفيده أكثر مما تتصوّر".
هنا تبدأ الحبكة الفرهادية الملتوية التي أهّلته ليصبح أفضل صانع أفلام في الشرق الأوسط بلا منازع، ومن أفضل صنّاع الأفلام في تاريخ السينما. إنه عبقري في كتابة نصوصه من صميم الواقع وإخراجها إلى الشاشة بشكل مدهش، مثل تحفته العظيمة "A Separation" وفيلمه الرائع "Fireworks Wednesday" ومؤخراً فيلمه الأسباني "Everybody Knows" وبقية الروائع. "فرهادي" وهو يكتب نصوصه أشبه برجل يسير على جبل جليدي ويصنع كرة صغيرة من الثلج، ويرميها لتتدحرج عبر المنحدر لتكبر وتكبر وتدمّر كل ما يأتي أمامها. في فيلم "بطل" هنا تماماً يقوم "فرهادي" برمي كرة الثلج الصغيرة، متجسّدةً في "رحيم" نفسه.
هل يجب الاحتفاء بـ "رحيم" وتمجيده وجعله بطلاً مشهوراً في الإعلام لمجرّد أنه قام بعملٍ نبيل يفعله أي شخص طبيعي؟ مع تكشّف أحداث الفيلم، قد تكون هناك حقاً هناك بعض الدوافع الخفية والحسابات الذكية وراء عمله النبيل، فالعملات الذهبية لا يمكن بقيمتها تسديد ديونه بالكامل على أيّة حال، فربما كان من مصلحة "رحيم" فعلاً القيام بالشيء الصحيح، إذ أن ذلك يجذب انتباه مؤسسة خيرية، وتبدأ في جمع التبرعات نيابة عنه، وهناك أيضاً مسألة ابن "رحيم" الصغير، الذي يعاني من التلعثم وصعوبات في النطق، وإظهاره على الملأ تبدو كمحاولة فاضحة لاستمالة مشاعر المجتمع.
جزء من تألّق الفيلم يكمن في أسلوبه العبقري في طرح الشكوك والتساؤلات حول مفهوم العمل النبيل. ما فعله "رحيم" أو "كرة الثلج" كانت له عواقب غير متوقعة، مثل فيروس كورونا الذي يتحوّر وينتشر ويلتقطه الجميع.
إرسال تعليق
0 تعليقات